الخميس، 22 يناير 2009

رسالة من الكبير محمد حسنين هيكل إلي زميله الكبير أيضا سلامة أحمد سلامة

عزيزي الأستاذ «سلامة أحمد سلامة»
إنك تفضلت وأرسلت لي المسودة المطبوعة لكتابك الجديد «الصحافة فوق صفيح ساخن»، راغباً بطريقتك الرقيقة وأسلوبك الراقي أن أكتب مقدمة له، وكان أول ما خطر لي حتي قبل مطالعة الصفحات أن شيئاً تكتبه لا يحتاج إلي مقدمة تمهد له، لكني وقد عرفتك عن قرب وسعدت بزمالتك سنوات طويلة ـ قدرت أن نزاهتك واستقامتك الفكرية واعتزازك المهني، إلي جانب حياء إنساني أحبه فيك وأحترمه ـ كل ذلك ـ كله علي بعضه ـ كما يقولون ـ يفرض عليك نوعاً من الإباء والكبرياء يقيد قلمك فيما يتعلق بنفسك، ويمسك لسانك فيما يتصل بقيمتك، وتلك صفات الرجال الكبار الذين أصبح وجودهم نادراً في زمان امتلأ بالفراغ وتعمق في السطحية ـ علي حد تعبير صديقنا الكبير «كامل الشناوي»!
دعني أقل لك ـ في خطاب موجه إليك ـ وليس مقدمة لكتاب ـ إنني استمتعت بما قرأت، وظني أنه جاء في وقته موضحاً لقضية شغلتني كما شغلتك، وقد كتبت أنت عنها لأنك مازلت في الساحة الصحفية ـ وأما أنا فقد انصرفت عنها أتابع من بعيد، وكذلك فإني أستطيع أن أحس بهمومك ربما بأكثر قليلاً، مما يمكن أن يحس بها آخرون، فهذه المهنة التي أحببناها معاً تتعرض لتهديد ثنائي الخطر: من الداخل بسبب أحوالها الراهنة، ومن الخارج بسبب أحوال تكنولوجيا جاءت بها أزمنة جديدة.إن كتابك عن «الصحافة فوق صفيح ساخن»، يعكس أسلوبك المستغني عن الإلحاح، فهي لمحات تعرض نفسها علي الناس، وتقوم بمهمتها في التنوير علي طريقة الفنار في اتساع البحر وعمقه، صرح يقوم شامخاً في قلب جزيرة من الصخر، وهو يدور علي ما حوله بومضات من ضوء نافذ إلي بعيد يهدي السائرين في الظلمات، والفنار بالطبيعة لا يثقل علي الباحثين عن شعاعه، وإنما هو يتحرك علي دائرة كاملة، محتفظاً بموقفه ثابتاً لا يتغير، وهو ماض في حركته بنظام وثبات، وحتي إن ضربت الأمواج صخوره فهو مستمر في أداء دوره لا يتوقف ولا ينحرف.
دعني ـ يا صديقي العزيز ـ أؤكد لك أن كل السائرين في هذا الليل الطويل ينتظرون الشعاع، لا يضيق بومضاته غير القراصنة الصغار، فهم يفضلون البحر ظلاماً دامساً معتماً، لكي يتسللوا تحت خفائه، كما يفعل هؤلاء الذين نسمع عنهم من قراصنة البؤس علي سواحل الصومال.
اكتب ـ يا صديقي ـ وانشر وتكلم، ودع الأمواج تتكسر علي الصخر، ودع ومضات النور تلمع علي سطح البحر في كل اتجاه، وتنير كل بقعة تصل إليها، وأما الأمواج فليس في مقدورها غير أن تغسل الصخور كل مساء، وترتد عنها كل صباح.سلمت ـ يا صديقي ـ وسلم عطاؤك نوراً وتنويراً.
محمد حسنين هيكل
وأنا أريد هنا أن أقول للكاتب الكبير, ان الصحافة المصرية التي قامت علي أكتاف مفكرين وكتاب ومثقفين كبار منذ بدايتها وحتي عقود قريبة, والتي تشرفت بأن يمتهنها شوامخ كبار مثل عباس محمود العقاد ومحمد مندور وطه حسين وزكي نجيب محمود وصلاح حافظ وصلاح جاهين ومحمود أمين العالم وجلال الدين الحمامصي, وكامل الشناوي وغيرهم كثيرون لا أحصيهم وأعتذر لهم جميعا الآن , اقول أن الصحافة صاحبة الجلالة التي شرفت بهؤلاء صارت الآن أشبه بعجوز مسكينة تتعثر في أسمالها المتهرئة, بعد ما ربطها الساسة ورجال الأعمال بأكياس العطايا والمنح, جعلوها يا سيدي تتسول علي أعتابهم من العوز والفاقة, ولأنهم لا يريدونها حرة أو واعية ومثقفة فقد لجأوا إلي بعض من مرتزقة لا هم لهم إلا المال, أما الكلمة الشريفة الحرة فهي خارج دائرة اهتمام هؤلاء وهؤلاء, صارت الصحافة الآن يا أستاذنا يحتل أجواءها طغمة من تجار الجملة والتجزئة الذين وضعوا تسعيرة للخبر والتحقيق, ومثل هؤلاء الناس لا يوجد ضمن حساباتهم شئ أسمه المهنة أو تقاليدها.
وهنا يا أستاذنا لا يمكن فصل هذه الأجواء عما يدور في كثير من بلاد الخليج والتي في تقديري بقيمها أثرت كثيرا بالسلب علي العمل الصحافي في بلادنا, فقد جعل المسئولون المؤسسات الصحافية في تلك البلاد أشبه بمصانع الملابس, أو البيبسي كولا, هؤلاء الناس حولوا المهنة والعاملين بها إلي مجرد مجموعة من الشغيلة الذين يقاس حجم عطائهم بما يقدمونه من إنتاجية, لا ما يبدعون من موضوعات, وهؤلاء الناس في واقع الأمر ملزمون نهاية كل يوم بتسويد صحف ملاكي تهدف في المقام الأول إلي الربح, فضلا عن الدعاية لصاحبها ومربي عجزتها من ابناء جلدته, وهم علي أبسط تقدير مجموعة من البسطجية لا عمل لهم إلا توصيل ما انتهي منه الشغيلة عبر ثماني ساعات هي المدة التي حددوها لعطاء الشغيلة في يوم عملهم , وهذه الحال والأجواء التي تسود في كل الصحف البترولية من شأنها وهذا ما يحدث بالفعل أن تلغي قيم كثيرة سادت في الصحافة المصرية, وعمل علي رعايتها أباء كبار قضوا زهرة شبابهم في بلدنا.
أما عن الصحافة في مصر فلو نظرت في جنباتها, وأنت بالتأكيد نعلم ما في جنباتها, سوف تري أنها تحتضن فيما تحتضن سكرتارية رؤساء تحرير سابقين ولاحقين, وعجزة وحلانجية وبنات حلوة حلوة فقط, أسف علي هذا التعبير, الصحافة يا سيدي صارت تضم صنفا جديدا من المنتسبين لها كل عملهم نقل ما يقال عن رئيس التحرير في القاعات وفي الجلسات الخاصة, هؤلاء الناس ليسوا أكثر من آذان صاغية مطرقة طوال الوقت, وانظر إلي برامج التلفزيون سوف تجد أن هؤلاء هم المسيطرون علي ساعاتها, وهم مجموعة من الجهلة أو المسطحين علي أبسط تقدير, وهذه هي المقاييس التي يحتاجها رجال المنابر والمال والسياسة في بلادنا من البحر إلي البحر.
إنني أشعر بالأسف الشديد عندما أنظر إلي المشهد الصحفي وأجده بمثل هذه القتامة, عندما أجد المهنة الني أختارها طه حسين وزملاؤه من مصابيح أيامنا يعمل بها ويتصدر صفحاتها مجموعة من المساكين الذين لا علاقة لهم بالكتابة ولا العمل الصحافي, الذين يسيل من أسنان أقلامهم لعاب الجشع والجهل والتسول والتضليل.
حمدي عابدين

ليست هناك تعليقات: